كانت تجلس في مغطس الحمام المليئ عن أخِرِه بالمياه وفقاقيع الصابون " اللهُم إلا بِضع سنتيمترات تركتهُم حتى يتسنى لها أن تُرخى رأسها " .. حوائط الحمام وردية عليها نقوش حمراء وخضراء وزهرية لورود وأوراق أشجار .. الأرض مُفترشَة بسِجادة تُغطي مساحة كبيرة من السيراميك على غير عادة فرش أرضيات الحمامات .. وعلى غير عادتِها أشعلت شموع فوّاحة بروائِح الزنبق والسَوسن، الحمام كُلّهُ مُضاء بالشموع ورائِحة الأزهار تُعبئ المكان .. جَلستها كانت جَلسة استرخاء .. وكُل بِضع دقائِق تغطس في المياه لثوانٍ ثُم تُطِل برأسِها من المياه تارِكة ذقنِها ورقبتها تغمُرهُما المياه .. تعتدِل في جلستِها .. ترفع ساق .. ثُم تُنزِلها وترفَع الأُخرى .. تُمسِك بكأس عصير الرُمّان الذي أعدتهُ لها أُمها ترتشِف مِنهُ رشفة ثُم تُعيدُه على حافة المغطَس من جديد .. تقول لها أُمها أن شراب الرُمّان الملئ بالحديد والفيتامينات سيمِد جسمها بالنشاط والحيوية التي تحتاجها العروس يوم عُرسِها .. اختارت موسيقى الأوبرات الكلاسيكية لتُضيّفها في هذِه الأُمسية الساحِرة في أخر ليلة لها في منزل أبيها .. نصحتها أختها الكبيرة أن تُمضي نهار ما قبل يوم العُرس في فِعل اللاشيء حتى تكون هادئِة الأعصاب ومُستعِدة ليوم تالي طويل .. فأخذت على عاتِقِها أن تُنهي كُل شيء من اعداد منزِلها الجديد وإنهاء كافة مشترواتَها ولوازِم العُرس وتضغط نفسها ووقتها وتفعل كُل ما في وِسعها لتُكافئ نفسها بحفلِة توديع العزوبية الرائِعة هذِهِ .. لا تستطيع أن تتذكر بالضبط من التي همست في أُذُنِها بأن تضع بعض أوراق الورود الحمراء في مياه المغطس ولكنها بالتأكيد صديقة عظيمة .. تشهق وتزفَر بعمقٍ شديد ..
وانفجر في رأسِها فجأة سؤال بسُرعة فرقعة فُقاعة الصابون .. " هل حقًا أُريد أن أمضي ما تبقى من عُمري معُه ؟! " ..
أُحِبُه .. بالطبع أُحِبُه .. فإن لم أكُن أُحِبُه لما كُنت حاربتُ الجميع من أجل أن أكون معُه .. وهل الحُب وحدَهُ كافي لتمضي ما تبقى من عُمرها معُه ؟! ..
مممم .. لا تُريد أن تسرِد في ذهنِهَا المُصدافات التي عرفتهُم على بعضهم البعض .. أرادت أن تبدأ بيوم أعترف لها بِحُبِه ..
أُحِبُكِ وأرُيدك أن تكوني زوجتي المُستقبلية ..
ومن هو .. لا يهم إسمُه، سنهُ، عنوانه، مستواه الإجتماعي.
قررت أن تُعرّيه .. أن تُجرِدُه من كُل أعضائه تترُكه عقل ماثِل أمامها في كفّة ميزان .. وتضع أمانيها وأحلامها في الكفة الأخرى لتعلم أي الموازين ستخِف .. وأيهم سيثقُل ..
تتذكَّر كُل مواقِفُه " الرجولية بالطبع " التي قام بِها معها .. وهي تثني وتفرِد رُكبتيها في المياه ..
ففكرتُه عن شُغلها الذي هو مضيعة للوقت ويستطيع هو أن يوفر لها تلك الملاليم الزهيدة التي تكسبها هي فكرة رجولية بالتأكيد .. فهي ستتفرغ لهُ وحدَهُ ولرعاية منزلهم وأُسرتهُم الكبيرة التي تتكون من فردين .. ليس هذا كُلُ شيء .. بل سيكون هو الشخص الأوحد الذي تُناقِش معُه سُبُل تنظيم النسل بالطبع لإن مشكلات نيتشه الوجودية هي أمور أصعب بكثير من أن يُناقِشها معها ..
طششششششش .. صوت المياه إثر قيامها بحركة عصبية عنيفة بيدها ..
بالطبع قطع علاقاتِها بأبناء أعمامِها وعماتِها وأبناء أخوالها وخالاتِها وزُملاء الدراسة وعملِها السابِق هو قرار جد حكيم وصائِب، فلا توجد صداقة بين الرجُل والمرأة وصلة الرحم تخُص أهل الزوج وحدهم لإن إنتقالِها من بيت أبيها لمنزله هو بمثابة قطع علاقتِها بكل ما كان بينها وبين هذا البيت.
تُمسِك كأس عصير الرُمان وترتشِف رشفة وتضعُه في مكانُه .. تنظُر لشموعها .. وتتأمل احتراقها من أجل أن تبعث لها بأريج زهورِها المُحببة .. تُقرِّر أن تُشارِكها فيروز في أفكارها عنُه ..
طريقة ملبسِها .. زينتها .. هواياتِها وأشيائِها الصغيرة التي تحبها .. كل هذِه الحاجات تغيَّرت وتبدَّلت واختفت .. وقتها أصبح مُقسّم بينه وبينه .. هي لم تَعُد تلك الفراشة المُحلِقة بين المروج كما كانت قبل أن تعرفُه .. ابتسامتها لم تعُد من القلب .. ولمعة عينيها اختفت .. صار هو كُل ما يشغل تفكيرها .. ونست نفسها .. نست ما كانت تُحِبُه .. نست ما كانت تفعلُه .. وما كان يُميزها عن مثيلاتِها ..
" فيه ناس كتير لكن بيصير ما فيه غيره " ~
تذكرت كُل مرة سخر من خوفها وقلقها عليه .. كل مرة ابتسم فيها ابتسامة نشوة وانتصار كلما أظهرت لهُ اهتمامها المُبالغ فيه " على حد قولَهُ " ..
تذكرت كيف كان يختلِق المشاكل في التجمُعات العائلية وغير العائلية مما يضطرها لوضع ابتسامة زائفة والتي كانت أكثر ما يُمزِّقُ قلبها ..
كيف كانت تُحاوِل دومًا اظهاره بصورة لائقة أمام كُل من حولُه وأولهم أمام نفسِها وكيف كان يستخِف بعقلِها كلما تكلمت بنات أفكارها ..
" بكتُب إسمك يا حبيبي وإسمي بينمحى " ~
" بكتُب إسمك يا حبيبي وإسمي بينمحى " ~
انتظرت منهُ الأمان والدفء والسكن والبيت .. انتظرت أن يُشاركها .. انتظرت أن يهتم بما تُحِبُه .. أن يعبأ بأحلامها وطموحاتِها .. كانت فقط تخاف أن تُغضِبُه .. تخاف أن يبتعِد عنها ويتركها .. تخاف ألا يكون لها ..
حاربت كل من كان يعيب سلوكه الأهوج الطائش النابع من الأناينة وحُب الذات المُفرطين .. إنهُ لي وأنا أُحِبُه .. ما يفعلُه هو خوفٌ عليَّ وحُبًا في .. سأكون سعيدة .. في منزلي سيتغير كُل شيء .. الحُب سيكبر .. كل شيء سيصير رائعًا ..
اعتدلت في جلستِها وضمَّت رُكبتيها إلى صدرِها وحوطتهم بذراعيها .. وضعت ذقنها على ركبتيها .. وأخذت تنظُر لحياتِها معُه في المُستقبل على رتابة صوت نزول قطرات المياه بالتتابُع من الصنبور ..
" حبيبي .. إحساسي هالقّد معقول يزول
فيه أمل .. إيه فيه أمل ..
أوقات بيطلع من الملل " ~
لا شيء سيتغير .. ستظل تُعطي .. ستظل مُنتظِرة .. ستظل تِلك الوحشة تسكُن قلبها .. وحيدة .. حتى نفسها التي كانت تأنس بِها قبلَهُ أنساها إياها .. لِما سأتزوج .. أين أنا .. ماذا ستُمثِل لي تِلك الحياة التي اخترت أن تكون جُدرانها بألونُه المُفضلة .. متى سأكون حُرّة القرار والرأي والتفكير .. متى سيُحِبُني .. هل يستحق أن أمضي البقية من عُمري معُه ؟! .. بدأت ترى كفّة أحلامها ورغباتِها وهي تثقل أكثر وأكثر وترتفع الكفة الأخرى في السماء تارِكة عقلِه يهوى بثِقَلِه على الأرض .. بدأت ترى نفسها بوضوح .. بدأت تعرف أنها ليست سعيدة ولن تكون مطمئنة وهي معُه .. نظرات أنايتُه وحُبُه لذاتُه بدأت تلمع في ذاكِرتِها كنجوم ليل الصحاري الواسعة ..
" ما حدا نطرني " ~
أرجعت ظهرها للوراء .. وأرخت جميع عضلاتها .. وابتسمت ابتسامة من نجا من موتٍ مُحقق وأشعلت سيجارة وجلست تُخطط لتدمير العالم ..