لَم تَكُن إنتفاضتى فجأة و إشتِعال فِكرة عابِرة فى رأسى مِن أجل لا شئ .. فقد تَعبُر مُحيطات واسِعة أو صحارى مُقفِرة من أجل أن تَتوصَل لشئ جديد .. قد يبدو لأحدهُم عادي ولكِن فى نَفسَك يُثير الكَثير .. فقد قررت فى الساعة الحادية و النِصف صباحا أنا أنزِل بمُفردي و لإوَل مَرة إلى شَارِع النبى دانيال العَتيق لإشترى كِتاب نصَحني بِه صَديق ..رغم إرتباطى بِموعِد فى الواحِدة و النِصف في مَنزِل إحدى صديقاتي و رُغمَ زحمة الطريق فى هذا الوَقت و خوفي أن أتأخر على صديقتى .. لَم أُرِد أن أفقِد حماستى و عَجَلّت فى تبديل ملابِسى و نَزَلتُ مِن بيتى و بدأتُ الطريق الذي لم أكُن مُتأكِدة بالضبط أنَه سيوصِلَنى إلى وِجهتى .. أَعشق إحساس التوهان و التَخبُط فى الشوارِع " كم أودُ أن أمشى فى كُل شوارِع محبوبتى الماريا " .. لم أتَعَثر كثيرا للوصول إلى المكان الذي أرَدتُه .. شارِع النبي دانيال .. مِن أقدَم شوارِع الأسكندرية .. شارِع طويل جدا .. يبدأ مِن محطة مصر و ينتهي بمحطة الرَمل " لَم أكُن أعلَم هذا قبل ذَلِكَ اليوم " .. شارِع تُجاري .. أكثر ما يُباعُ فيه و يُشترى هو الكُتُب .. قديمة .. حديثة .. مُستعملة .. جديدة .. كُل شئ .. سألتُ عن الكِتاب الذي بَدأتُ رِحلتى مِن أجلُه فلَم أجِدُه بحثتُ عنه طويلا بِلا فائِدة .. لَم أَرِد لشئ أن يَفسِد رِحلتى فإشتريت كِتابين .. و أسرَعتُ من مشيتي حتى ألحَق بِموعِدى فى الواحِدة و النِصف .. رَغم أنها لم تكُن تجاوزت الثانية عَشر و خَمسة و أربعون دقيقة و لَكِني شَعُرت بشئ ما يُنادينى .. سِرت في هذا الشارِع العتيق جِد مسرورة .. حتى بَلغتُ نهايته .. إرتئيتُ أن أستَقِل ما أذهَب بِه إلى صديقتى .. وَصلتُ قبل موعِدي بعشر دقائِق .. لَم أُرِد أن أباغِت صديقتي قبل موعِدي ب عشر دقائق فتكون غير مُستعِدة فآثرت الإنتظار فى مدخَل العِمارة .. العِمارة حديثة .. فى الإبراهيمية على البحر مُعظم سُكانها على ما أعتقِد طبقة فوق متوسِطة إن لم تَكُن أعلى .. كان فى المَدخَل إيضا سيدة إفريقية "خادِمة " ك اللاتى نراهُم الآن كثيراً فى المحِلات التُجارية .. لا أعتَقِد أنها تجاوزت الثلاثين .. كانت ترتدى جينز و قميص و مُتشِحة بشالٍ على رأسِها لا أدرى إذا كان حِجاب أو تَخفى .. فى المدخل يوجَد كُرسيين أمام مرآة كبيرة .. كانت السيدة تضع أغراضها على كُرسي و على الكُرسي الأخَر يَجلِس طِفلها الذي لم يتعدى الثلاث أعوام .. و فى الجِهة المُقابِلة يوجد مكتب حارِس العقار أمامَهُ كُرسي شاغِر .. دعانى الحارِس للجلوس و أشار إل أحد الكراسي فى المُقابِل .. فأشرت إليه إنها مشغولة و جلست على الكُرسي الشاغِر أمام مكتبِه ..قال لي بصوت جهوري " سيبيك مِنها دى باردة! .. كُنتى قعدتى " لا أعلم إذا كانت فهِمَت كَلِماتُه أم لا و لكِنها فى هَذِهِ اللحظة نَظرت إليه و أدارت و جهها سريعا .. كانت السيدة مشغولة بإطعام إبنها العاصي الرافِض تماما لطريقتها العنيفة فى إطعامِه .. لَم يكُن يستجيب .. و كيف يستجيب طفل عِندَه ثلاث سنوات للأكل و أمُه لَم تفعل شيئاً لإطعامِه سوى الصَريخ بِه و العبوس في وجهِه .. أكادُ أُجزِم أنها من أكثر السيدات بؤسا اللاتى رأيتهِن فى حياتى .. و لم يكُن ذَلِك واضِحاً من هيئتها قدر ما كان واضِحاً مِن وجهِها و عُبوسِها و تجهُمها .. أما إبنها فهو مِثال للطِفل الإفريقي صاحِب الضَحِكة باعِثة كُل مباهِج الحياة فى النفس " يا إلهي كيف يلتقي كُل هذا الفَرَح و كُل هذا البؤس" .. الحقيقة إن هذا الولد أثار شفقتي جدا فهو كُل ما يَهُمَهُ أن يَلّعب و يَضْحَك غَيْرَ عَابِئٍ بمشَاكِل أُمِهِ مَع رَبَتها أو مع أبوه أو حتى بقسوة الحياة التى بدأ يتعرف عليها مِن خِلال جُمُود أُمُه .. و بدأت بالإبتِسامِ فى وجهِه حتى يستجيب لإُمِه .. أَفْتَحُ فَمي .. فيفتح فمُه هو الأخَر فتدِس لَهُ أُمهُ الطعام و لَكنَهُ يتسّمر على هذا الوضع .. أُحرِك فمي كأننى أمضُغ الطعام يبدأ هو بفِعل نفس الشئ .. " يا لَهُ مِن طفلٍ جَميل " .. تكرر الموقِف أكثر مِن مرة حتى فَرِغَت أُمُه مِن إطعامِه .. وسط ذهول الحارِس مِن تصرُفى لإنهُ يراها كما وَصَفَها " باردة " فكيف أكون لطيفة مع إبن تِلك البارِدة .. الحقيقة ما أثار دهشتي أن السيدة لم تُدِر وجهها إطلاقا لِترى من تِلك التى تُداعِب إبنها و جَعَلتهُ يَفرُغ مِن طَعامِه .. هى لَم تُحرِك رأسها أبدا رغم أنى متأكِدة أنها مُتأكِدة مِن أنى أُداعِب إبنها !! ..ما كُل هذا الجُمُود .. و لِما؟!! .. أهو طَبْعُهَا ؟ .. أم إنهُ طَبْع أفريقيا السّمرَاء ؟!! " أفريقيا تِلك القارة الرَحيبة البخيلة جِدا .. السخية جِدا .. تَعُجُ أرضَها بالذَهَب و الأحجار الكريمة و تَبخَل على سُكانِها بزخاتِ ماءٍ تَروي ظمأهُم " .. أم هى مَآسِي حَياة خادِمة و تغرُبها هي و طِفلِها و ما تلّقاهُ من مُعاملة جَعَلَت مِنها حجراً .. أذهلتنى حقا .. أكانَت غاضِبة مِنى لإنى أُداعِب إبنها و كأن لِسان حالها يقول " سيبيه ياخُد عالشقى " ؟!! أكانَت خائِفة مِن أن تُدير وجهها لي فأبتسِم لها و أُخرِجها مِن واقِعها المؤلِم الذى سُرعان ما ستعود إليه بمُجرد رَحيلى ؟! .. هل سيحتفِظ إبنها بهذهِ الإبتسامة ؟! .. أم ستُجبِرُه الحياة أن يُغير نظرَتَهُ لها ؟ ألِأراهُم و يُثار فى نفسى و عقلى كُل هذه الأسئِلة إنتفضُت فجأة و إِشْتَعَلَت فى رَأسى فِكرة أن أشْتَرِي الكِتَاب فَأذهب إلى صَديقتى مُبكِراً ؟! .. وجدتُ نفسى سابِحة في تأمُلاتى فى تِلك الأفريقية الجامِدة و طِفلها و سبب جُمُودَها .. و إنتفضُت فجأة لإنظُر فى ساعتى لإجِدُها الواِحدة و النِصف بالضبط .. حَمَلتُ حقيبتى و طَلَبْتُ المِصعد و أنا أنظُر إليهِم
.. مازال الطفل يبتسِم لي وهو يفتح فمُه .. و مازالت أُمَهُ فى جُمُودِها ..
تلكَ هي اللحظات التي تجعل الحياة ثمينة، لكن لم يعيها فقط
ReplyDeleteالحياة.. بحثٌ دائم عن الإجابات، لمن يُحسن اقتناص الاسئلة
جميل قلمك يا صديقة
هالة
التفاصيل الصغيرة التى تُعطى الأشياء معناها .. و هى التى تُوجِد الأسئِلة التى لا إجابة لها ..
ReplyDeleteأشكُرِك يا هالة :)
ليس ايجاد الاجابه هو الهدف و لكن البحث عنها هو الاهم بغض النظر عن النتيحه
ReplyDelete