تَسير دومًا مُطرقةَ رَأسِها. يداها اليُمنى تحتضِن ياقة قميصها، تُتمِم على أن طرحتها تُغطى عُنُقها جيدًا. يداها اليُسرى تُتبِت على حقيبة يدِها. من يراها يشعُر أنها لا تُغيِّر ما ترتديه، فكُل ما تلبسُه يُختصَر في قُمصان باهتة الألوان، جونلة سوداء أو أُخرى زرقاء من قُماش " الجينز " وغطاءٍ للرأسٍ غالبًا ما يكون لونُهُ أبيض. خطواتُها قصيرة وسريعة. عيناها دومًا على موضِع قدميها حتى تكاد تخترِق نظراتِها الأرض. تودُ لو يبتلِعها الكوكب في جوفِه، أو يكون لها وللناس جميعًا نفس الملامح فتضيع بينهم ولا يميزها أحد بين الخلائِق. من العسير أن تنتبِه لأحد وهي تمضي قُدُمًا في طريقها. تُركِّز طاقتها فقط على أن تختفي. أن لا تُلحظ أو يرها أحد. إن لم تتودد إليها لتتعرَّف عليها وتُصادِقها لن تَعرِف أحد. تثِق في من يتعرَّفون عليها بسرعة شديدة وغريبة. الغريب أكثر أنها تثِق في أحد وثقتها في نفسِها معدومة. تتوقع دائمًا أن تُخطف، تُقتل، يَحدُث لها حادث سير. دائمًا قلقة ومتوترة. هي لا تتوقع ذلك بُناءً على ما أملاه عليها حدسَها، أُمها خوّفتها من السير في الطريق لهذه الأسباب. تتوقُ لمعرفة الحياة والناس والمرواح والمجيء ولاكتساب الخبرات و.. للحُب. ولكن مع أولِ طرقة على قَلبِها تصفَع الطارِق بشومة على رأسِه تُفقِدُه وعيِه. أمها أملت عليها أن تتصرَف هكذا. خِبرتها في الحياة لا تتعدى خِبرة طفل في الثاني عشر من عمرِه. رغم سُقوط ثلاث وعشرون ورقة من شجرة عِمرها، مازالت أشياء كثيرة تُفاجئِها وتُثير تعجُّبِها. شاب ثائِر، فتاة تُدخِّن أو مُستقلّة، شاب وفتاة يتواعدان. كُل هذا نتاج قِلة ما رأتهُ وقلّة ما عرِفته وقّلة أحتكاكها بالناس. روحُها طيبة كالنسمة وهادئِة كالليل. ولديها قبول عالي وشكلٌ حسن. تحبها متى رأيتها. كان يُمكِن أن يكون لها أصدقاء وفيرين تُخبِرهم بسريرتها أو تمضّي معم الوقت. أمها منعتها من ذلِك. تكره تقاسيم وجهها الجميلة، تكرهها جميعها وتكره النظر في المرآة. لا تذكُر متى كانت أخِر مرة رأت إنعكاس صورتِها فيها. تمقُت عيناها البُنيّة الواسعِة وأنفها الدقيق وشفتيها الورديّة الممتلئِة وجبينها العريض وبشرتها الخمريّة. لا تذكُر متى كانت أخِر مرة بدَّلَت ملابِسها أو استحمَّت والظلام لا يُغطيها. تكره أن ترى معالِم أنوثتِها. تكره كُل ما يُذكِرُها أنها إمرأة. فهي لم تستخدم مساحيق التجميل يومًا ومُنذُ بلوغِها لم تلبس في بيتِها ما يكشِف أكثر من وجهها وكفيها وقدميها، أما شعرُها البُنّي الطويل الناعِم الذي تمنَّت أن تقُصُه فيصير لهُ شكلًا وهيئة -وأمها رفضت- فكانت تربُطُه وتعقِدُه حول الرُباط الأسود فلا يُستدل على طولِه بشيء. كان بينها وبين أُمِها عِلاقة عجيبة. صعب أن تُعرَّف أو أن يُعرف كهنها. فأُمها هي العين التي ترى بِها العالم، فلا ترى إلا ما تُحِب أن تُريها إياه أُمها. ولا تذهب إلا حيثُ تسمح لها أُمها -وقليلًا ما تسمح-. علاقتها بأصدقائها عُرضة للإعدام في أي وقت فقط إذا صرحت أُمها بإنها لا تُحِب فُلانة. تلبِس ما تسمح بِه أمها وتتحدث بما يتفق مع آراء أمها. ومن جانب الفتاة، فهي لا تفعل إلا ما يُملى عليها. تُحِب أمها عِصمت كثيرًا. ومع ذلك تهابها وتهاب أن تقترب منها أو أن تقبلها وتحضُنها. لم تضمها عِصمت منذ كانت في المرحلة الإعدادية. كانت الفتاة تشعُر أنها بحاجة لأن ترتمي بين ذراعي عصمت ولكن كان هُناك حاجز ما يمنعها من ذلك، كأن عِصمت قِطعة في متحف كُتِب عليها " ممنوع الاقتراب أو التصوير ". لم تعلّم أبدًا لماذا لا تستطيع أن تضم أمها. لم تُفكِّر أن تُفكِّر فيما تفعل أو أن تتمرَّد أو تعصيها أو أن تفعل ما يُمليه عليها رغبتها. لم يجول بخاطِرها حتى ماذا تُريد أن تكون. ولا أن تعرِف ماذا تُحِب وماذا تكره، ماذا تدرُس وماذا تعمَل. وإذا سألتها عن هوياتِها وكيف تُمَضّي أوقات فراغها ستُجيب بعبارات بِلا إجابات. لا تستطيع أن تميز الخبيث مِن الطيبِ مِن البشَر. إلا من خِلال الإطار التي صنفت عصمت فيه البشر. الفتاة المؤدبة التي يُمكِن أن تُصادِقها هي الملتزِمة في ملابسها وفي مشيتها وفي كلامِها ولا تُكلِم الشُبان وبالطبع تعيش مع أهلها ولا تخرج كثيرًا ومؤكد لا تُدخِّن. وبالطبع أي فتاة لا تنطبِق عليها هذه المواصفات فهي فتاة غير مؤبة وغير جديرة بالاحترام . لم تُكلم شابًا طوال سنوات دراستها الجامعية. وإذا حدث أن جاء شاب ليكلّمها سواء طلبًا لكشكول أو طلبًا لصداقة كانت تتلعثم وترتجِف ويحمرّ وجهها وتُكمِّل المحادثة بصعوبة وبالتالي الشاب يشعر بإحراجها ولا يكلمها مرة أخرى. فتاتي التي أكتُب عنها تاهت ملامِحها بين ما تُريدُه عِصمت وما فرضَهُ المُجتمع على عصمت لتُربي إبنتها. غدا ستتزوج الفتاة وتظهر لها ملامح " فمجتمعنا لا تظهر لفتياتُه ملامِح قبل الزواج ". ملامح ليست سوى ملامح عِصمت. ستُربي عِصمت الجديدة فتاة أُخرى بلا هوية حتى تتزوج وتُصبح عصمت أُخرى. هكذا تدور عجلة الحياة في هذهِ البقعة من الأرض. ولو أن فتاتي وقفت لِمرّة واحدة أمام عارية أمام المرآة ورأت بروز أنفِها ونهدِيها ورُدفيها لعلِمت أن كُل ما بِها يقول لها ثوري يا أُنثى. كُوني نفسِك يا ابنة حواء. كوني إنتِ. أُخرُجي من مكمنِك بحق كل ما على عاتِقك من مسؤولية وأهمية. بحق كُل من نعانيه من مشقة وعسر في الحياة. بحق تأنيث الثورة والحُرية. أخرُجي للعالم واعرفيه. استزيدي مِنه وتعلّمي. أفيديه وإملئيه بطاقتِك وذكائِك وروحِك.
سألتُ فتاتي يومًا " هل قامت أُمك بختانك ؟! "
ارتعدت من الكلِمة وأحمَّر وجهها خجلًا ورُعبًا من وقع الكلِمة على أذُنها وقالت " لا ".
فقُلتُ في نفسي " لِماذا يقتطِعوا جُزءًا مِن عضو التناسُل وبالإمكان أن يقتطِعوا جُزءًا من عُضو التفكير. فتاتي قد ختنت أُمُها عقلَها.
سألتُ فتاتي يومًا " هل قامت أُمك بختانك ؟! "
ارتعدت من الكلِمة وأحمَّر وجهها خجلًا ورُعبًا من وقع الكلِمة على أذُنها وقالت " لا ".
فقُلتُ في نفسي " لِماذا يقتطِعوا جُزءًا مِن عضو التناسُل وبالإمكان أن يقتطِعوا جُزءًا من عُضو التفكير. فتاتي قد ختنت أُمُها عقلَها.
No comments:
Post a Comment