لم تكُن تدري ماذا تفعل بذاتِها .. أين تذهب .. أين تختبئ .. أين تضع رأسها لتشعُر بالأمان .. كُل ما حولها يُنذِرُ بأن حدثًا جللًا سيحدُث .. حرب أهلية ؟! .. إحتلال خارجي ؟! .. الإثنان معًا ؟! .. لا يوجد فرق .. ففي كل الخيارات سوف تعيش حياة صعبة .. حياة مُهينة .. أو نكفي بأن نصِفها بإنها مُجرد حياة لأُناس يتنفسون .. يأكلون ولكن لا يهنئوا .. يشربون ولا يرتووا .. يناموا ولكن لا يرتاحوا ولم يكُن ما يُفجِعُها من كُل هذا أن تموت .. كانت الحياة في هذِه الظروف ما تُخيفها .. فكرة الاستيقاظ على صوت طلقات الرُصاص .. رؤية الدم في كُل مكان .. دموع الثكالى .. نظرات الأطفال الشريدة .. حالة اللاحياة واللاموت .. رائحة الكربون التي تُعبئ المكان .. كُل هذا كان يُرعِبُها .. هي لم تُعاصِر أي حرب مِن قبل .. قد تكون الحرب شيئًا أسهلُ مِما في تخيُلِها بكثير .. ولكنها لازالت تذكُر أن أكثر الكوابيس التي رأتها طوال خمسة وعِشرون عامًا كانت تتمثل في خيالات عن الحرب .. دبابات وجنود .. طائِرات تقصِف بيتها .. نيران تلتهم الحي الذي تعيشُ فيه .. كانت تقوم على إثر هذِه الكوابيس مفزوعة .. كئيبة .. مُتعجِبة من أن تُراوِدها مثل هذِه الكوابيس التي تُعد بالنسبة لحالة وطنها السياسية لا مجال لتحققها .. عدلت من مكان سريرها الملاصق لحائط مُطل على الشارِع .. كانت تخاف أنا تُباغتهُم غارة على فجأة فيخترق الصاروخ حائطها وتكون أول الضحايا .. " نعم كُل هذا بسبب كابوس " .. لهذا كانت فكرة أن هُناك حرب تلوح في الأُفُق هي بمثابة كابوس عانت مِنهُ لسنين يُأرِق نومها وها هو سيُصبِح واقِعًا تعيشُ فيه ليُنغِص عليها ليلها ونهارها وما تبقى مِن عُمرها ..
لم تكُن تدري أين تفِر بِأحلامِها .. أين يكون سلامها النفسي .. أين تعيش .. أين تأكُل لتهنئ وتشرب لترتوي وتنام لترتاح .. كانت مُحاطة بأسئلة تُهلِكُ عقلها من التفكير .. ماذا يعني الوطن ؟! .. هل هُو المكان الذي ولِدنا ونعيشُ فيه ؟! .. أم المكان الذي ننعم فيه بالسلام الداخلي أينما كان ؟! .. وهل يُمكن أن ننعم بالسلام الداخلي في مكان حملنا إليه الذكريات ولم نصنعها فيه ؟! .. ماذا سيفعل فينا الحنين حين إذٍ ؟! .. فهو سيقودنا حتمًا إما لللامُبالاة التامة أو الاكتئاب المزمن .. وكلتا النتيجتان لا يتحقق فيهما السلام الداخلي .. هل تهرب بكُل مخاوفِها ورغباتها في الحياة إلى مكان أخر ؟! .. أم تُكمل حياتها في المكان الذي ولِدت وتربت فيه ؟! .. كانت تقف مطولًا أمام عبارة " الــوطن ليـس فنـدق لـتغادره عندمـا تسـوء الخـدمة فيه ... " نعم .. إننا يجب أن نكون بجانِبِ أوطاننا في الحربِ كما السِلمِ .. كانت هذه العِبارة تُمثِل الطِفل الذي يشِد أبوه من جِلبابُه فيُثير عطفه ليستبقيه .. كانت تعلم أن وطنها بحاجة لها مثلما هي دومًا بحاجةٍ لهُ ..
وإشتعلت الحرب التي كانت على وشك القيام .. وأُشعِلت النيران في أحلامِ كُلِ الشباب .. كُل أمانيهِم بحياة مُطمئِنة تحطمت على مُقدِمة الرشاشات .. طُبِعَت الحياة بلون واحِد هو السائِدِ بين كُلِ الألوان .. اللون الرمادي .. فالدُخان والطُرُقات، السماوات والأجساد .. كُلها إكتست بنفسِ ذاتِ اللون .. الرمادي .. حتى الكلام والسُكات والحقائِق والتساؤلات التي أصبحت بِلا جوابات .. بلون الرماد .. لمِاذا ؟! .. وإلى متى ؟! لمصلحة من ؟! .. لا إجابة .. ماذا حدث ؟! .. ستسمع أكاذيب .. لا شيء يعني لك أي شيء .. أنتَ بِلا حاضر ولا مُستقبل .. والماضي ذُبِح أمام عينيك .. فأهلك أصدِقائك جيرانك المارة في الطُرقات من عرِفتهُم يومًا .. أي شخص يحمل نفس جنسيتك إما مات .. أو جُنّ .. أو لم يعُد هذا الشخص الذي كانَهُ مِن قبل .. لا تعرِفهم حين تراهُم وحتى هُم أنفُسِهِم لا يعرِفوا ذاتهُم حين ينظروا في المرآة .. المعالِم طُمِست .. والروح ماتت .. والهوية ضاعت .. كانت تُحاوِل أن تُعزي نفسها بِكُلِ شيئ وأي شيء ربطها يومًا بذلِك المكان .. بأهلها .. بحبيبِها .. بأصدِقائِها .. بالذكريات .. بالولاء .. بالواجب .. بفخر المُحاربين .. بنشوة الانتصار الذي تنتظِره .. بلذة الثأر .. ولكِن ما مِن خلية بداخِل جسدها تهدأ .. كانت تشعُر بالصُداع في كُل عصب من أعصابِها على حِدي .. وألمِ تُميزهُ في كلُ عظمة مِن عظامِها .. وجرحٍ يَقطُرُ مِن روحِها قبل شرايينِها .. القتلى بالآلاف .. ولكن الموتى بالملايين ..
رحل كُل من كان يربِطها بِهِ صِلة .. قُتِلوا .. أو فروا إلى حيثُ قد يتبقى من نفسُهم شيئًا مِن ويلاتِ الحرب .. لم يتبقى لها من هذه الدُنيا سوى الحُب .. هذا الحُب الذي كان الجزيرة التي ترسو عليها حين تكون تائهة في بحر عذاباتِها .. لم يكُن يهما الوقت التي تمضيه دون أن تُلحِق إسمه بإسمها .. كل ما كان يهمها أن لا تنتقِل لمرحلة جديدة في هذهِ الظروف البغيضة .. حُبها لأبنائها كان أكبر من أن تُنجبهُم في هذا المكان مجتمِعًا مع هذا الزمان .. وبرغم لهفتِها لأن يضُمها هي وحبيبها بيتٌ واحدٍ إلا أنها كانت مؤمنة أنه برغم استمرار هذهِ الحرب لسنتين إلا أنها ستنتهي يومًا ما عما قريب .. ووقتها ستكون مُستعِدة لبدء حياتها الجديدة .. حياة تجمعها بحبيبها .. حياة تُحِب أن تهِب لها أبنائها .. لكنها كانت أطول نفسًا من حبيبها .. كان يُحِبَها .. ولكن الوضع كان أفظع من أن يُواجهُه أي حُب .. أتصل بصديقة أجنبية لتتزوجه وتنتشلُه من هذا الضياع .. لم تبك .. لم تحزن .. لم تلمه .. كُل ما شعرت بِهِ نحوه إحساسًا بالحِقد .. فقد وجد من يحمي ما تبقى منهُ .. وهي لاتزال هائمة بين دمار شوارِع مدينتِها وإنكسار روحِها .. تُريد أن تنتهي من تلك الحالة .. تُريدُ أن تسكُن روحها .. وتهدأ نفسها .. تودُ لو أنها تستيقِظ يومًا على أي شيء سِوى أصوات الموت .. تودُ أن تجِد وسادة في هذا العالم تستوعِب عقلِها بكُل ما يحمل من أفكار ..
الهروب .. لم يعُد هُناك مفرٌ مِنهُ .. تتابُع المناظِر من شُباك القِطار صار حُلمها الوحيد .. حلمها الذي خنق أي رغبة أُخرى .. حُلمها الذي معه لم تلُم حبيبها للحظة على تصرُفُه هذا .. هو ليس بِنذل .. هو ضعيف .. والحرب علمتها احترام الضعفاء .. احترام آلامهم .. وطريقة تفكيرهم ذات الطابِع الأُحادي .. نظرًا لأنهم فقدوا الثقة في كُل من حولهم .. وهي الآن ضعيفة .. وتُريد أن تهرب من ذلِك العالم الذي أصبح كُل ما فيه ذكريات .. فهُنا تعيش الذكريات .. وهُناك ستحملها معها ..
قررت أن ترحل إلى بلد أُخرى .. فيوم موتها مكتوب .. ولكن طريقة حياتها يُمكن أن تُغيرها .. ترحل وتبحث عن حياة جديدة في مكان أخر مجهول بالنسبة لها .. تجد رجُلًا تتزوجه وتُكون أُسرة .. فالكثيرون يأملون في الزواج بلاجئة غريبة .. لا أهل ولا وطن .. وقد تكون ذات حظٍ وافر فتسعد مع زوجها .. وأما إذا كان نصيبها معُه كباقي أيامها ستقول " وفيها إيه .. ما هو إشتراني بميتين جنيه " .
No comments:
Post a Comment