لم تكُن المرة الأولى التي يراها فيها، فقد مّرت من جانِبِهِ عِده مرَّات مِن قبل، لم يكن من الضروري أن يراها بأُم عينيه ليتعرَّف عليها، فقد تعرَّف على جِهاز حِسي جديد مُنذُ أول مرّة يلتقيها في الشارِع، فبات يعرِف " وهو الذي لم يدرُس كيمياء الجسد " أن الحُب يبدأ بحاسة الشم، فرائحتها نفذت إلى أنفِه لتدُك أول حصونُه مُعلِنة عن بِدء استعمارها لقلبُه، وبالرغمٍ من أنها لم تكُن بالقرب الكافي ليُدرِكَ رائِحتها، ولكنها استطاعت الوصول إليه والسُكنة في روحِهِ وأصبح يستطيع تمييزها من بين العالمين، تعلَّم أن بجلدِه مُستقبِلات حِسية للحرارة والكهرباء، فبمجرد مرورها من جانِبِه تشتعل الحرارة في جسده وتسري الكهرباء في بدنِهِ، ولأول مرة يشعُر بالفراشات ترتعِش في جوفِه يوم تطايرت شعراتها مع نسمات الهواء الرقيقة، لِما يقولون أن الحواس خمس وكُل عصب فيه يُميزها بطريقة تختلف عن العصب الذي يُجاوِرُه.
كانت تسير ببُطء، والكون كُلَه يبُض على رنات خطواتها الوئيدة، حين أدركتها حواسُه كُلها دُفعة واحدة واختُزِل هو نفسُهُ في قلب يدُق مع مرّات تنفُسِها، كان يود لو أنها تكون بخُف الهواء فيستنشقها وتملئ رِئتيه، ومع ذلِك .. فقد كان يومها كُل شيء حُرًا في الهواء، شعراتِها المموجة، ذيل فُستانها الفيروزي، رائِحة عِطرها الشذية، وروحي حلقت فوقهم جميعًا في السماء الواسِعة فهذِا بُستان نبت في قلبي مُنذ أن رأيتُها، وهذِه السحابة أتخذتُها مسكنًا لي بعدَ أن أحببتَها، وتلك أنهار من مِسكٍ وخمرٍ تدفقت في شرايني ما ان داعب أنفي عطرها، ويا ويلتي، صِرتُ أُحِبُها عدد المرات التي تمنيت فيها أن أضُمها، أتنفسها، أتذوَّق طعمها. لم أعُد أعرِف هل ما أصِفَهُ الآن هو احساسي أول مرة أراها أم احساسي حين رأيتها الآن، فكُلما شعر بوجودِها جسدي أحبها من جديد ككل مرة يشعُر بِها، حُب لم يتغيَّر ولم يشوبه أي نقص مُنذُ أن وُلِد، هي نفسها لم تتغيّر، حتى وإن استبدلت فستان المدرسة التركوازي بزيها الرسمي الذي تذهب بِه إلى عملها، حتى وإن حلّت جدائِلها وتركت العنان للنسيم ليفعل بِهِ الأفاعيل، لا تطلّع الشمس إلا عندما تمُر على عينيها السوداوين، لا يتوقَّف الزمان إلا عند رؤيتها، أحيانًا أتعجب كيف أن بقيّة المارين لا يُعجبون بِها كما أُعجب بِها، ولكن يبدو أنها شمسي أنا وتسطع لي وحدي أنا، سألتُ نفسي دومًا لِما لا أُحادِثُها، لِما لا أقترِب منها، لِما لا أبوح لها بمكنون صدري لِما لا أتخِذُها زوجة كما اتخذتُها حبيبة أبدية ؟، لِما لا أجعلها تُنير لياليّ كما أنارت بصدُف لُقياها كُل حين أيامي وأسابيعي حتى أراها مرة أخرى لتملئ حياتي من جديد بالفرح والسعادة، لِما لا أحتفِظ بكُل هذا الجمال معي؟! ما هي فكرتي عن الحُب وما هي غايتي ..
ولكِني كُنت دومًا أشعُر بانها أجمل من أن أقترب منها، أجمل من أن ألمسها، أجمل من أن أُحادِثُها، هي أجمل من كُل شيء وأحلى في خيالي من أن أشوهها، في كل مرة أُفكَّر في التحدُث إليها يخطُر في بالي ماذا لو اقتربنا ولم تكن جميلة كما أراها، كيف ساعيش حياتي بدون حبيبتي الأسطورية، هل سأشعُر بكُل هذا الجمال بداخلي بعد أن يذهب جمالها من عيني، هل أحتمِل أن أفقِد حلاوة رؤياها صُدفةً فتحلو كُل ساعة في يومي، لا أجِد أن فقدي لحلاوة الصُدف والمسافة التي تجعل منها طيف وأميرة وأسطورة لُه معنى .. فالزم مكاني بعيدًا عنها وأكتفي بالابتسام لها وأمُر في سلام متناسيًا التفكير في ماذا سيكون طعمها لو أني تذوقتها ..
No comments:
Post a Comment