Sunday, 4 May 2014

الحُب في زمن الياسمين

تستيقِظ كُل صباح على صوت رنين الهاتف. ترفع السمّاعة وتسمع المُتصِل يقول نفس الكلِمات التي يقولها كل يوم وكأنها أوَّل مرة تسمَعُها: " صباحك ياسمين ".
تكشِف عن أسنانها العاجيّة مُتنهِدة ثُم تُجاوِبُه بنفس الإجابة ككُل يوم " صباحَك كاميليا " ثُم تُضيف " لا تتأخَّر ".
يرُد: " لن، فقد أوحشتني " .
تضحك ضحكة تُغلِق بِها عينيها آذِنة لنور الشمس أن يسطع بالغُرفة ثُم تضع السمّاعة.
لم تقُل لَهُ سلامًا قط طوال خمس سنوات يُخابِرُها على الهاتِف كل يوم صباحًا.
تُنزِل قدميها المطليّة أظافِرهما بعناية فتاة في العشرين مِن عُمرِها، تقِف وتتسنَّد بتؤدة على الحائِط حتى تصِل للمرآة الكبيرة التي تتوسط الحائط المواجِه لسريرها، تبتسِم فتلمع عيناها وتبرُز تجاعيد عرضية حولهما صانعين ما يُشبِه أشعة الشمس في وقت الشروق.
خطواتُها رصينة، مُتماسِكة أصغر بعشر أعوام من عمرها الحقيقي. تغتسِل وتذهب إلى مطبخها الصغير لتعد فطيرتين، تختار اليوم الأناناس ليُضيِّفهُما. 
تترك اللبن على النار ليغلي بينما تسقي شجرتي الياسمين والرمُان. تعود للمطبخ لتحضير القهوة بينما تُمسِك خُصلات شعرها الفضيّة وتمشِطُهما، لم يعُد برأسها الكثير منه، ولكنها لازالت تعتني بِه وتُكلِلُه بورود من شجرة الرمُان رغم معرفتها أن بكُل وردة تقطفها تخسر ثمرة تأكُلها.
تنتهي من القهوة وتمشيط شعرها لتُبدل قميص النوم بفستان بيتي قطني أبيض يُظهِر خطوط الزمان على عُنُقِها، تتعطّر بعطر تعود رائِجتُه لخمسين عامًا.
تضع الطعام على طاوِلة بين شجرتي الرمّان والياسمين اللاتان تحتلا مساحة كبيرة من الشُرفة بينما تسمع دقاتُه المُعتادة على الباب والتي لم يتغيّر إحساسها بشغفِه لتفتح الباب قط.
تُسرِع لتفتح لَهُ الباب وهي تعلم أن خطواتها الهونة لن تُسعِفها، ولكنها تحرص دومًا أن تُسرِع حتى لا تترُكه وحده طويلًا.
يُغطي وجهَهُ بالزهور التي يجلبها لها ككل يوم، نفس الفرحة تشعُر بِها ونفس الفراشات تطير في بطنها، تبتسِم لَه الابتسامة التي خصتهُ بِها، مزيج من الحُب والاشتياق والراحة والشغف.
تُفسح له ليَدخُل، ترن صوت أقدامُه الثلاثة على خشب الأرضيّة العتيق يعرِف المكان جيدًا ويعرِف ما يجب عليهِ فعلُه. يدخُل المبطخ ليُحضر آنية زُجاجيّة يضع بِها الماء والقليل من السُكَّر ثُم يُنسِق بِها الوردات البيضاء والحمراء ثم يضعها على طاولة الطعام. 
يُشغِّل جهار التسجيل على أُغنيتهُم الأثيرة " إمتى الزمان يسمح يا جميل " ..
تُرسِل الشمس أشعتها الحميمة لتُدفئ المكان بينما نسمات الهواء الصباحية تُنعِش الجو.
تضع فطيرَتُه في طبقِه وتسكُب القهوة والقليل من اللبن في فنجانِه وعينيها لم تُغادِر عينيه، يخُصها دومًا بنظرة يحتضنها كُلها جسدًا وروحًا، تؤمن أن هذِه النظرة هي ما تُبقيها حيّة كما يؤمن هو أن ابتسامتها هي ما تمنحُه الانفاس.
يتناولوا الإفطار في هدوء رجُل وامرأة في السبعين من العُمر وقد يكون هذا الهدوء هو الشيء الوحيد الذي يُستدل بِهِ عن عُمرهُما.
يضعها الشوكة والسكين على الجانِب الأيمن من الطبق ويبدأن باحتساء القهوة بينما يُريحا ظهرُما على الكُرسي ورجليهما مُمددة إلى الأمام.
يُمسِك بيديها ويضعهُما على الطاوِلة، يُحب رؤية تلألؤهما تحت الأشِعة الصفراء، يتحسس عروقهما النافِرة بطرف أصبَعِهِ ثُم يُقرِبهُما من شفتيهِ ليطبعهُم عليهِما.
يقول مُبتسِمًا: " واهو الزمان سَمَح يا جميل "
تتكئ رقبتها على ظهر الكُرسي وتكون عينيها بعينيه مُباشرةً وترُد: " تعلم كم أُحب الخريف، أنتظرناهُ أبدًا نعيشُ فيه " 
يتنهّد تنهيدة تُخرِج من صَدرِه مرارة واشتياق خمسة وأربعون عامًا من الفُراق والخوف والأحزان، يُغيّر من وضعيّة رقبتُه ليجلس مثلها مُمسِكًا بيدها بينما يُحدِقا في الأُفق إلى اللانهائية وقد تصاعدت رائحة الياسمين في الجو لتُعبِئُه.


القصة مستوحاه من رواية الحُب في زمن الكوليرا


https://soundcloud.com/mohamed-ouda-11/sets/lwmtsebjpc4b 
https://soundcloud.com/lana-del-rey/lana-del-rey-young-beautiful

No comments:

Post a Comment