Friday, 25 July 2025

الموقف

الجو حار جدًا لانتظار الترام على المحطة.. إنه يوليو وإنها الإسكندرية .. إن لم تشويك الحرارة ستخنقك الرطوبة.. أقف على الرصيف المقابل للمحطة في دخلة عمارة رخامية.. إن ما يفعله الرخام بالحرارة سحر.. ستكون ارض الجنة رخامية بالتأكيد..
إنها ساعة ما قبل صلاة الجمعة.. يستعد الناس للصلاة.. إما بالذهاب إلى المسجد أو بالتبضع قبل أن يذر البائعون البيع.. تتوقف السيارات عند فرن للمخبوزات.. يريدون التزود بالفطار قبل أن يمسكوا طريق الساحل.. أرى بعض العوامات تأخذ حيزًا كبيرًا من السيارة..
يمر من أمامي رجل.. أربعيني ؟ لا إنه بالتأكيد خمسيني الآن.. فقد كان مُدرسي في يوم من الأيام.. أشيب أصلع مع كرش صغير.. لم اعره اه تمامًا ولكن شيء في عقلي نبهني أنه شخص اعرفه. . بعد أن مر ولم أعد أرى منه سوى ظهره ومشيته.. نفس المشية غير المكترثة التي تشبه العرج ولكنه ليس بأعرج.. أتذكر حينما عُيِّن في مدرستنا الإعدادي المشتركة وهو في ريعان شبابه.. كان حديث كل المراهقين والمراهقات.. كان أشقر ذو عيون ملونة وكان روش بلغة هذا الوقت.. البنات تتحاكى عن وسامته والشباب يتحاكى بألعوبيته.. ماذا عسى بعض المراهقين أن يفعلوا في المدرسة ؟
يدرسوا ؟
بالطبع لا.. لقد ذهبوا من أجل قليل من التسلية والكثير من النميمة.. 
أما هو ؟هو في الحقيقة شاب في الثانية والعشرون رماه حظه العثر في مستنقع هرمونات المراهقة مما حاوطه بالكثير من الاشاعات وكأنه دخان بلا نار فحينما رأيته الآن فهو رجل خمسيني غارق في العادية.. يقول الأولون إن ذبل الورد ريحته فيه ولكن لا فيه ورد ولا له ريحة ولكن لعنة الله على براعم الاستروحين والتيستوستيرون وعلى الفراغ المميت..
أتذكر بعدها مُدرِّسة أخرى كانت أيضا حديث المراهقين في فترة من الفترات.. كانت ترتدي ملابس في غاية الضيق والصف والشف.. كان شعرها أحمر في ذروة مجد عمرو خالد واتجاه الفتيات للحجاب.. كانت تغطس عكس التيار.. كما إنها كانت تتصف بالكثير من الجرأة والغرائبية.. لا أتذكر جيدا ولكن هذا ما أستطيع سرده الآن.. في يوم من الأيام كنا في الصف الثالث الإعدادي.. وكما هو معروف في منهج العلوم.. إنه وقت دراسة الأجهزة التناسلية للإنسان.. شرح مثل هذه الدروس في هذه السن في صفوف مشتركة كان يغرق الجميع في خرس تام.. كانت أكثر الحصص سكونًا وهدوئا.. يمكنك حرفيًا سماع صوت الصمت.. أتذكر في يوم من الأيام كانت مدرسة العلوم تشرح الجهاز التناسلي الذكري وكانت قد رسمت نموذجه على السبورة.. لم يجروء أحد على مسح السبورة.. لا أحد يستطيع أن يمسها.. كانت السبورة مثل الحرم لا يمكن المساس بها.. وللحظ يومها كان مدرس الحصة التالية غائبا وللحظ أيضًا كانت المدرسة التي اتسمت بالاختلاف هي من سيتابعنا في هذه الحصة.. دخلت الفصل.. صوتها عالي كثيرة الضحك والهزار في كل شيء وأي شيء كل مع تفعله غير ملائم تماما لهذا السن ولكن حصة وتعدي.. وفجأة وقفت أمام السبورة ورأت الرسمة وقالت بصوت عالي جدا: " إيه دا ؟!!!!" 
ورغم أننا قد خرجنا عن صمتنا الذي غرقنا فيه في حصة العلوم ودخلنا في الصخب والجلبة التي احدثتها هي في الحصة الاحتياطي التي كانت تشرف فيها علينا إلا أن سؤالها قد أعادنا لهذا الصمت.. 
تعاود السؤال مرة أخرى.. إيه داااا ؟!!! 
لازلت أتذكر هذا المشهد كأنه الآن.. يرد أحد الزملاء وهو يبتلع ريقه بصوت خفيض " دا ساينس حضرتك" 
تعلّق بضحكة عالية مجلجلة " انتوا بتاخدوا حاجات غريبة اوي، ايه يعني دا ؟! " 
يتحلّى بشجاعة أكثر من المرة الأولى بكثير ليرد " حاجات في جسم الإنسان"  
حينها تشيح نظرها عن السبورة وتكمل العبثية التي أدارت بها الحصة.. ونتنفس جميعنا الصعداء.. 
رغم مرور أكثر من عشرين عاما على تلك المواقف.. إلا إنها لم تفشل تماما إن تجعلني ابتسم ابتسامة واسعة لذكرها.. 
تمر  بعدها من أمامي سيدة وابنتها تنهي حديثها قائلة لها " مش عارفة ايه القرف دا"..
أأمن على كلامها قائلة.. عندك حق والله ايه القرف دا.. ألا لعنة الله على المراهقة.. ألا لعنة الله على الهرمونات.. 

No comments:

Post a Comment