لا أتذكر ما اسم اليوم، كنت في إجازة مرضية أقضيها عند أمي وفي أجازة عن العمل حتى أضع حملي..
استيقظت لافتح جوالي.. لم أصدق ما رأيت وما قرأت.. لم أستطع التوقف عن التهام الأخبار والنكات والتهنئات.. كان يومًا سعيدًا بحق.. رؤيتهم وهم يساقوا كالنعاج كانت تشفي القلب وتسره.. لم أتوقف عن مشاهدة فيديو طوفان الأقصى الذي يصوّر الابطال وهم يطيرون ليحطوا على أراضيهم المسلوبة في غلاف غزة.. لم يكن في الوجود ما هو أجمل من هذا المنظر.. الأسرى وهم مكبلون ومساقون إلى أماكنهم.. فيديو السيارة الإسرائيلية التي اخذها الأبطال وعاد ليرقص بها في الشارع.. فكرة أن تأتي وليدتي في عالم لا يعرف الأوغاد كانت فكرة آسرة.. كنت أعلم أن الرد سيكون قاس جدا.. لا يهم.. انه وقت الاحتفال.. يبدوا أننا أيضا قد استعدينا لكل شيء..
ذهبت يومها لجدتي ذات الخمسة وثمانون عامًا.. كنا في مرحلة تشخيصها بالسرطان من الدرجة الرابعة.. رويت لها ما حدث.. كانت مبتهجة وفرحة ودعت من قلبها بالنصر.. تلك المرة كانت من أواخر المرات التي أحدثها فيها وهي في تمام وعيها.. لم تسألني أبدا عن وليدتي، منذ أن علمت بحملي وهي تدعو لي بتمام الحمل وكامل الصحة ولكنها أبدا لم تسأل عن نوع الجنين، اسمه، مشترواته وهي التي عنت دومًا بالتفاصيل.. كانت هذه الفكرة بالذات ترعبني.. لماذا لم تسألني يومًا عن جنيني؟
هل سترحل قبل أن تراه؟
هل تعلم ذلك ولذلك لا تبالي؟
يومها قررت أن أقحمها في التفاصيل..
أريدك أن تختاري معي الاسم، هذا أم ذاك؟
اختارت الاسم الأكثر دلالًا وأنوثة.. فهي مولعة بالدلال والأنوثة..
كنت يومها سعيدة جدا.. كان يومٌ طفوليًا بجدارة..
* قد مسنا الحلم مرة * أروى صالح
* سوف تلهو بنا الحياة *جورج جرداج
أظنها الليلة التي فقد فيها العالم عذريته * بالنسبة إلي *
قد كان العالم أبدًا عاهرًا ولما لا..
فلا يذكر القرآن أبدا أكثر الناس إلا وهو يصفهم ب لا يؤمنون، لا يعقلون، لا يعلمون، للحق كارهون..
ولكني كنت حمقى طفلة بضفائر وردية تظن أن الخير ينتصر..
القنابل تدك قلبي وتفتفته.. الفسفور يحرق جلدي ويصهره.. كلمات الثكلى تتردد في عقلي بلا توقف.. صور الشهداء انطبعت في جدران نفسي الى الأبد..
اتذكر الآن الوقت الذي قضيناه نشجب وندين ونسب ونلعن ونراقب المشاهدات ونعدّل اللوغاريتمات ونجمع التبرعات ونشارك الفيديوهات ونهدد بالمقاطعات..
والمعبر..
المعبــــر..
والمــــعــــــبــــــر ..
وبفففففففففففففففففففففففففففففففففففف
بصقة على كل ما فعلناه وعلى غباؤنا وآمالنا الوهمية..
في السابع من نوفمبر
لا أتذكر ما اسم اليوم، فكنت قد رجعت إلى بيتي لأن أمي منشغلة جدا بجدتي التي تقضي أيامها الأخيرة في العناية المركزة.. ولازلت في اجازة عن العمل لأني على وشك أن أضع حملي..
استيقظت على مكالمة من ابنة خالتي..
هل تصفحت جوالك؟
لا!!!
الحمد لله، أردت أن أخبرك بنفسي.. استرد الله أمانته!
كان وقع الخبر غريبًا جدًا، كنا على معرفة تامة بالأمر، وقد رتبنا كل شيء بالفعل ولكن.. ستظل دائما وأبدًا.. مصيبة.. إنا لله وإنا إليه راجعون
توفت جدتي..
كنت أتمنى لو استطيع أن أضع طفلتي في حجرها لتباركها وتفرح بها.. كانت تدعو بهذا الأمر لسنوات.. ولكن منذ أوشك الحلم أن يصبح حقيقة كانت على يقين بأنها لن تدركه..
بعدها بتسع أيام فقط جاء موعدي المنتظر.. الحضور في المشفى كان منقطع النظير، الكل جاء لمؤاساة أمي في ذلك الوقت العصيب.. وكيف لا.. من العسير على الإنسان جدا أن يفقد أعز إنسان ويُبشَّر بعزيز آخر في مدة هكذا قصيرة.. كانت عملية بسترة باحتراف..
رُزقت بوردتي الوردية .. اسميناها لي لي.. الوردة النقية الطاهرة ذات الرائحة الجميلة.. أحب الورود.. وأحب الروائح الجميلة.. وأحبها هي.. أكثر من كل الأشياء..
حبي لها ضاعف من ألمي على كل طفل رأيته يذبح ويحرق وتقطع رأسه بدم بارد من عدو سافل..
أصبحت تفاصيل أكثر تقتلني.. حفاض ذلك الطفل المصاب ممتلئ على آخره، لابد أن جلده ملتهب أيضا ويجب أن يبدل حفاضه..
هذا الطفل صغير جدا على أن يكون ذو أربع أشهر، لا تأكل أمه بالقدر الكافي ولا تستطيع أن تشبعه في المجاعة في شمال غزة.. كيف سيكون لبنها وهي مكلومة، حزينة، مصابة ونازحة!
رأيت أطفال رضع ترضع في شق تمرة حتى تستطيع أن تتغذى.. قرأت عن رجل دفع في قطعة لحم صغيرة جدا ١٢٠ شيكل حتى تستطيع أن تتغذى زوجته بعد أن وضعت حملها ورزقه اللي طفله الأول..
خمسون ألف امرأة مثلي تماما يضعون حملهم في إبادة جماعية ومجاعة وانقطاع تام للماء.. لا اكل، لا دفء لا نظافة ولا أمان.. أتنفس وأنا أشعر بعدم الاستحقاق، فغيري تتنفس هواء مليء بالفسفور..
أتذكر أول كعكة أصنعها في ذلك الوقت، لم استطع أن المس الدقيق فصورة الشهداء الذين استشهدوا في سبيل كيس من الطحين تلاحقني حتى الحين..
تلك الأم تحكي عن عدد الحقن التي احتاجتها كل يوم حتى تستطيع أن تبقي طفلها حيًا في رحمها بعدما حاولت الإنجاب لسنوات وسنوات.. بنك أطفال الانابيب الذي تم قصفه وحرم عائلات كثيرة من حلمها بامتداد نسلها..
أللابادة الجماعية تعريف آخر يا سادة؟
الأب المكلوم الذي ذهب لاستخراج شهادات ميلاد أولاده فعاد ليجدهم مقتولين.. فقط لأن زوجته أعلنت ذلك على مواقع التواصل الإجتماعي..
أي عدو هذا الذي يقتل غيظا وغلا وحقدا على المقتول!!
أي حرب تلك!!
أنت هدف..
أنا هدف..
كلنا هدف!!!
لا يمكن أن نعيش في عالم يسكنه معنا أناس يرون أن لا حياة لهم إلا على جثثنا!!
ثم ندع كل هذا جانبا وننظر حولنا ونرى كل شيء وقد تم تكبيره واضاءته حد الفجاجة.. لا مجال الصوابية السياسية التي صدعنا بها أولاد الغبية من التنويريين.. أي نور ذلك.. أنهم يعلنوها بكل وضوح ويكذبون بكل صراحة.. انها دنيتهم وانه علُّوهم..
أنت الضحية وأنت الشر
حياتك أضرار جانبية لا يمكن تفاديها
أنت بالأساس حيوان ولا معنى لوجودك
السادس من أكتوبر ٢٠٢٤
هذا وقد مر عام.. مر على أرواح مائة ألف شهيد ومفقود.. مر على آلاف الأطفال الذين تيتموا وبترت أعضائهم وأصيبوا بعاهة مستديمة.. مر على ركام جميع مدارس وجامعات غزة.. مر على آلاف الأطباء والصحفيين الذين تم استهدافهم فقط لأنهم يقوموا بدورهم..
مر علي وقد فقدت القدرة على التنفس بدون الشعور بالك الغصة في حلقي والرعب القائم في قلبي وعقلي.. كل تلك الأفكار التي هدمتها وأعدتها من جديد.. أكثر سوداوية عنصرية وحنق.. أكثر حنقًا وكرهًا للعالم.. أكثر كفرًا بالإنسان كامل الإيمان والتسليم لله..
هذا وبعد كل هذا الموت، وكل هذا الدمار وكل هذا الكذب علينا أن نتقبل فكرة اننا نتشارك نفس الهواء.. علينا أنا نحيا ونقاوم.. علينا الأمور.. أي أمورٍ تلك!! فأنا وصلت لسطري هذا وقد نسيت لماذا قامت الحرب!!!
ولكن.. قلبي لن ينسى كيف كان عام الحزن..
No comments:
Post a Comment