Sunday, 6 October 2024

عام الحزن

السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ ..
لا أتذكر ما اسم اليوم، كنت في إجازة مرضية أقضيها عند أمي وفي أجازة عن العمل حتى أضع حملي.. 
استيقظت لافتح جوالي.. لم أصدق ما رأيت وما قرأت.. لم أستطع التوقف عن التهام الأخبار والنكات والتهنئات.. كان يومًا سعيدًا بحق.. رؤيتهم وهم يساقوا كالنعاج كانت تشفي القلب وتسره.. لم أتوقف عن مشاهدة فيديو طوفان الأقصى الذي يصوّر الابطال وهم يطيرون ليحطوا على أراضيهم المسلوبة في غلاف غزة.. لم يكن في الوجود ما هو أجمل من هذا المنظر.. الأسرى وهم مكبلون ومساقون إلى أماكنهم.. فيديو السيارة الإسرائيلية التي اخذها  الأبطال وعاد ليرقص بها في الشارع.. فكرة أن تأتي وليدتي في عالم لا يعرف الأوغاد كانت فكرة آسرة.. كنت أعلم أن الرد سيكون قاس جدا.. لا يهم.. انه وقت الاحتفال.. يبدوا أننا أيضا قد استعدينا لكل شيء.. 
ذهبت يومها لجدتي ذات الخمسة وثمانون عامًا.. كنا في مرحلة تشخيصها بالسرطان من الدرجة الرابعة.. رويت لها ما حدث.. كانت مبتهجة وفرحة ودعت من قلبها بالنصر.. تلك المرة كانت من أواخر المرات التي أحدثها فيها وهي في تمام وعيها.. لم تسألني أبدا عن وليدتي، منذ أن علمت بحملي وهي تدعو لي بتمام الحمل وكامل الصحة ولكنها أبدا لم تسأل عن نوع الجنين، اسمه، مشترواته وهي التي عنت دومًا بالتفاصيل.. كانت هذه الفكرة بالذات ترعبني.. لماذا لم تسألني يومًا عن جنيني؟
هل سترحل قبل أن تراه؟
هل تعلم ذلك ولذلك لا تبالي؟
يومها قررت أن أقحمها في التفاصيل.. 
أريدك أن تختاري معي الاسم، هذا أم ذاك؟
اختارت الاسم الأكثر دلالًا وأنوثة.. فهي مولعة بالدلال والأنوثة.. 
كنت يومها سعيدة جدا.. كان يومٌ طفوليًا بجدارة.. 
* قد مسنا الحلم مرة * أروى صالح
* سوف تلهو بنا الحياة *جورج  جرداج
أظنها الليلة التي فقد فيها العالم عذريته * بالنسبة إلي *
قد كان العالم أبدًا عاهرًا ولما لا.. 
فلا يذكر القرآن أبدا أكثر الناس إلا وهو يصفهم ب لا يؤمنون، لا يعقلون، لا يعلمون، للحق كارهون..
ولكني كنت حمقى طفلة بضفائر وردية تظن أن الخير ينتصر.. 
 القنابل تدك قلبي وتفتفته.. الفسفور يحرق جلدي ويصهره.. كلمات الثكلى تتردد في عقلي بلا توقف.. صور الشهداء انطبعت في جدران نفسي الى الأبد..
اتذكر الآن الوقت الذي قضيناه نشجب وندين ونسب ونلعن ونراقب المشاهدات ونعدّل اللوغاريتمات ونجمع التبرعات ونشارك الفيديوهات ونهدد بالمقاطعات.. 
والمعبر..

المعبــــر..

والمــــعــــــبــــــر ..

 وبفففففففففففففففففففففففففففففففففففف
بصقة على كل ما فعلناه وعلى غباؤنا وآمالنا الوهمية..

في السابع من نوفمبر 
لا أتذكر ما اسم اليوم، فكنت قد رجعت إلى بيتي لأن أمي منشغلة جدا بجدتي التي تقضي أيامها الأخيرة في العناية المركزة.. ولازلت في اجازة عن العمل لأني على وشك أن أضع حملي..
استيقظت على مكالمة من ابنة خالتي..
 هل تصفحت جوالك؟
لا!!!
الحمد لله، أردت أن أخبرك بنفسي.. استرد الله أمانته!

كان وقع الخبر غريبًا جدًا، كنا على معرفة تامة بالأمر، وقد رتبنا كل شيء بالفعل ولكن.. ستظل دائما وأبدًا.. مصيبة.. إنا لله وإنا إليه راجعون 
توفت جدتي.. 
كنت أتمنى لو استطيع أن أضع طفلتي في حجرها لتباركها وتفرح بها.. كانت تدعو بهذا الأمر لسنوات.. ولكن منذ أوشك الحلم أن يصبح حقيقة كانت على يقين بأنها لن تدركه.. 
بعدها بتسع أيام فقط جاء موعدي المنتظر.. الحضور في المشفى كان منقطع النظير، الكل جاء لمؤاساة أمي في ذلك الوقت العصيب.. وكيف لا.. من العسير على الإنسان جدا أن يفقد أعز إنسان ويُبشَّر بعزيز آخر في مدة هكذا قصيرة.. كانت عملية بسترة باحتراف.. 
رُزقت بوردتي الوردية .. اسميناها لي لي.. الوردة النقية الطاهرة ذات الرائحة الجميلة.. أحب الورود.. وأحب الروائح الجميلة.. وأحبها هي.. أكثر من كل الأشياء.. 
حبي لها ضاعف من ألمي على كل طفل رأيته يذبح ويحرق وتقطع رأسه بدم بارد من عدو سافل.. 
أصبحت تفاصيل أكثر تقتلني.. حفاض ذلك الطفل المصاب ممتلئ على آخره، لابد أن جلده ملتهب أيضا ويجب أن يبدل حفاضه.. 
هذا الطفل صغير جدا على أن يكون ذو أربع أشهر، لا تأكل أمه بالقدر الكافي ولا تستطيع أن تشبعه في المجاعة في شمال غزة.. كيف سيكون لبنها وهي مكلومة، حزينة، مصابة ونازحة! 
رأيت أطفال رضع ترضع في شق تمرة حتى تستطيع أن تتغذى.. قرأت عن رجل دفع في قطعة لحم صغيرة جدا ١٢٠ شيكل حتى تستطيع أن تتغذى زوجته بعد أن وضعت حملها ورزقه اللي طفله الأول.. 
خمسون ألف امرأة مثلي تماما يضعون حملهم في إبادة جماعية ومجاعة وانقطاع تام للماء.. لا اكل، لا دفء لا نظافة ولا أمان.. أتنفس وأنا أشعر بعدم الاستحقاق، فغيري تتنفس هواء مليء بالفسفور.. 
أتذكر أول كعكة أصنعها في ذلك الوقت، لم استطع أن المس الدقيق فصورة الشهداء الذين استشهدوا في سبيل كيس من الطحين تلاحقني حتى الحين.. 
تلك الأم تحكي عن عدد الحقن التي احتاجتها كل يوم حتى تستطيع أن تبقي طفلها حيًا في رحمها بعدما حاولت الإنجاب لسنوات وسنوات.. بنك أطفال الانابيب الذي تم قصفه وحرم عائلات كثيرة من حلمها بامتداد نسلها..
أللابادة الجماعية تعريف آخر يا سادة؟ 
الأب المكلوم الذي ذهب لاستخراج شهادات ميلاد أولاده فعاد ليجدهم مقتولين.. فقط لأن زوجته أعلنت ذلك على مواقع التواصل الإجتماعي.. 
أي عدو هذا الذي يقتل غيظا وغلا وحقدا على المقتول!! 
أي حرب تلك!! 
أنت هدف.. 
أنا هدف.. 
كلنا هدف!!! 
لا يمكن أن نعيش في عالم يسكنه معنا أناس يرون أن لا حياة لهم إلا على جثثنا!! 
ثم ندع كل هذا جانبا وننظر حولنا ونرى كل شيء وقد تم تكبيره واضاءته حد الفجاجة.. لا مجال الصوابية السياسية التي صدعنا بها أولاد الغبية من التنويريين.. أي نور ذلك.. أنهم يعلنوها بكل وضوح ويكذبون بكل صراحة.. انها دنيتهم وانه علُّوهم.. 
أنت الضحية وأنت الشر 
حياتك أضرار جانبية لا يمكن تفاديها 
أنت بالأساس حيوان ولا معنى لوجودك 

السادس من أكتوبر ٢٠٢٤
هذا وقد مر عام.. مر على أرواح مائة ألف شهيد ومفقود.. مر على آلاف الأطفال الذين تيتموا وبترت أعضائهم وأصيبوا بعاهة مستديمة.. مر على ركام جميع مدارس وجامعات غزة.. مر على آلاف الأطباء والصحفيين الذين تم استهدافهم فقط لأنهم يقوموا بدورهم.. 
مر علي وقد فقدت القدرة على التنفس بدون الشعور بالك الغصة في حلقي والرعب القائم في قلبي وعقلي.. كل تلك الأفكار التي هدمتها وأعدتها من جديد.. أكثر سوداوية عنصرية وحنق.. أكثر حنقًا وكرهًا للعالم.. أكثر كفرًا بالإنسان كامل الإيمان والتسليم لله.. 
هذا وبعد كل هذا الموت، وكل هذا الدمار وكل هذا الكذب علينا أن نتقبل فكرة اننا نتشارك نفس الهواء.. علينا أنا نحيا ونقاوم.. علينا  الأمور.. أي أمورٍ تلك!! فأنا وصلت لسطري هذا وقد نسيت لماذا قامت الحرب!!! 
ولكن.. قلبي لن ينسى كيف كان عام الحزن.. 

Saturday, 1 July 2023

عُدنا ..

الآن .. وقد أصبح لدي كل الوقت، الذي أملك والذي لا أملك .. الذي أمتلكت والذي لم أتصور في يوم أنّي قد أمتلك ..  أجلس في بيتي .. 
لم أتصوّر في يوم أنّي قد أشعر هذا الشعور.. رغم أني قد أكون قلت في الصباح " عايزة أروّح " .. ولكني في هذه اللحظة في بيتي .. 
نفسي منتظم .. ولا ألهث .. قد يكون لدي الرغبة في أن أجهش بالبكاء .. ولكنّه إجهاش الوصول .. 

لا استطيع وصف سعادتي في إحتضان مدونتي من جديد، بعد عشر سنوات .. لم أنقطع .. ولكنّي لم أكن أشعر أبدًا بالاستقرار الكافي لحمل تلك الراية .. لم يكن لدي النضج الكافي لكل ذلك .. كانت رحلة طويلة .. مضنية .. رحلة البحث عن الذات .. تعبير تقليدي جدًا.. ولكن في هذه اللحظة تحديدًا أشعر أن كُل شيء مررت به .. ورغم مرارته كان مُجديًا .. 

الآن وقد تصالحت مع كل حماقاتي .. كل ذلّاتي .. كل ما كُنتُ عليه .. الآن وقد تعلّمت أن أُفرق بين يدي اليمنى واليُسرى ..أمتن لكُل ما تعلمته في هذه السنون، أمتن لتلك الرحلة التي تعلمت فيها عني أكثر ما تعلّمت .. أجلس الآن في غرفتي على سريري .. استمع لموسيقاي الكلاسيكية .. أشم رائحة الورود المنبعثة من شمعتى .. يأتيني الضوء من مصدر غير مباشر .. مثلما تمنيت ومثلما كنت أفعل دومًا .. 

أشعر أني استطيع أن أتأمّل كل تلك اللحظات التي مرّت دون أن أعيشها حقًا .. أن ألاحق كل تلك الصباحات التي فاتتني .. وأن أتعقب كل أشعة الشمس المستلة من كُل شباك .. لم أكُن أعلم أن على قدماي أن تتألم كُل هذا الألم حتى تَدرُك راحتها .. أُريد أن أُربت على تلك الساق الصغير الوهنة التي تحملت كُل ذلك الركد .. أُريد لهذا القلب أن يمتلئ بكل الهواء .. هو يستحق ذلك .. أريد أن أُسقط عن عقلي حساب الدقائق والساعات .. أُريد أن أُمضيها فيما أُريده حقًا .. لم أعُد أريد أن أنام يا إليزابيث .. أُريد أن أصحى .. 

Friday, 28 April 2023

قمر وكوكب

يتقاسم الناس بين الشعور بالاستحقاق والشعور بأنهم غير كافيين . 

 يُعجِزُني دومًا شعور الاستحقاق. أتوقف كثيرًا أمام تصرفات كتلك الصادرة من الأشخاص الممتلئة بهذا الشعور. يعلمون تمامًا ماذا يريدون أن يفعلوا، ويفعلوه ! يا إلهي، بهذه البساطة ! يتجاهلون الأعراف والقوانين بواضعيها، لا يهمهم من يتكلم وما يقول، إنهم فاعلون. لا يحتاجون لمن يخبرهم لهم أنهم عالدرب سائرون، فهم بالفعل سائرون. تعودوا تمامًا على سماع كلمات المديح والإطراء، حتى لم يعدوا بحاجة لأي منها، تماهوا معها فصاروا كيانًا واحدًا. أنا الإطراء!

بينما ملئت خيبة الآمال نفوس هؤلاء أصحاب الشعور بأنهم غير كافيين. تتردد أصداء كلمات الملامة في قلوبهم إلى الأبد. يحملوا على ظهورهم حقائب من النقد الدائم لذواتهم ولما يفعلوه. تتقوص سيقانهم في كل مرة يجب أن ينتصروا فيها لأنفسهم بينما تغوص رُكُباتهم في مياة التضحيات الباردة.  يسكبون أرواحهم عند أقدام من معهم في محاولة الوصول للأكتفاء.يفعلون ما يُطلب منهم وما لا يُطلب. في محاولة دائمة أن يقدرّوا ذواتهم. هم مفعولون. يستكثرون أقل كلمة شكر. لا شيء يؤكد لهم أنهم مستحقيها. أنا الهجاء.

 يحكي الخال عبد الرحمن الأبنودي عن سبب عدم تعاونه أبدًا مع أم كلثوم. يبدأ حديثه بقوله " أنا راجل فيروزي" ثم يسرد ثلاث  مواقف طلبت منه أم كلثوم قصائد قد كتبها الأبنودي لأشخاص بعينهم. في أحد تلك القصص كان عبد الحليم حافظ يُسجل الأغنية في الإذاعة بينما كانت أم كلثوم في الغرفة المجاورة وأستمعت للأغنية فأعجبتها فأرسلت للخال تطلب منه أن تغنّي هي نفسها الأغنية ! أستشاط الصعيدي غضبًا من طلبها هذا وصرخ فيها " يعني أقول للراجل يطلع بره عشان حد تاني ييجي مكانه  " ! 

لم تكتفي فيروز أبدًا من سرد حبها لعاصي الرحباني، حتى بعد خيانته لها وطلاقهما ووفاته، أؤمن تمامًا أنه لو كان عاصي قد استمع لأغنية " سألوني الناس " وهو في قبره لحيى من جديد وعاد لها. أتذكر صورتها عندما زارها رئيس فرنسا ليكرمها في منزلها كانت كل الصور المتداولة وهي بسيطة، خجلى وتنظر إلى الأرض.

كلا الشعورين يدفع البشر للأمام، ولكن هل يكونوا أطيب ؟ أنفع ؟ أكثر أستقرارًا ؟! هل يئنس من يجاورهم ؟ هل ستكون كوكب آخر، أم ستجاور القمر ..


 




 



Tuesday, 22 June 2021

ليس ‏من ‏ذلك ‏بد ‏

إنني في حاجة دائمة لإذابة الجليد. يخبرني بذلك الثقب الذي في جوفي. فهو ولاتساعه تنقطع ما لدي من أواصل ود، وتبرد ما لدي من حماسة. أعرف أن هذا النهم للحياة لن يُشبع ولن يُرضى. ليس لذلك آخر ولا آخِرة ولا يوجد بوصلة أو اتجاه من الأساس. هذا الملل المقيم في نفسي والذي يحول بيني وبين كل سبب من أسباب الوجود. إنه دافعي ومثبطي وحيرتي وحيلولتي. 
يغرقني عقلي في محاولات دائمة لمعرفة ذاتي ولاستدراك الإجابات. 
من أكون.. إنني كل شيء أمكن أن يكون. يمكن تعريف السائل بأنه مرن بالقدر الذي يجعله يتخذ شكل الإناء الذي يحتويه. أنا سائل. سريع التشكل سريع التسرسب. 
يخبرني ذلك الثقب في قلبي الذي لا يرتفئ أبدًا بأني أحتاج لجرعات مكثفة من الدفء، والثبات والارتواء. أنا نبات. نبات لا يحتاج إلى هواء. تخبرنا الفيزياء إن الهواء كالماء من الموائع. يتسع بقدر المكان الذي يرحب به.
على ذكر الفيزياء اتذكر درس المكبس، كيف اتحمل التقلص إلى أقل حجم مع الضغط وكيف أتسع وسع البسيطة مع البراح. أنا هواء. 
أغوص أحيانا في نوبات حنين قاتلة. أود لو أني أعود لذاتي. أحن لأن أكون نسيًا منسيًا. أن أكون فراغ ما قبل الانفجار الكبير. أحن لأقدم شيء كنته. أنا فراغ. 
أشعر بنصل سكين حاد جدا على معصمي. كيف يكون ذلك الوجع عميق جدا وكأنك لا تشعر به. أمرره مرارا على نفس المكان. أو بسحق سيارة مسرعة جدًا وثقيلة جدا وترتطم بقوة شديدة جدا. لا يهم.. فأنا كثيرة الاحتمال.
أريد لكل هذا أن ينتهي.. أريد لكل هذا أن يزول. 

Tuesday, 30 March 2021

أريد أن أكتب مقالة طويلة جدا عن العنف السلبي.. 

كيف تركنا مفرّغين من كل إحساس بالطمأنية ومنعدمي تقدير الذات.

كيف حوّلنا لمسوخٍ تشبثت أعينهم بأعين كل من حولهم، منتظرين لكل إيماءة رضا، فزعين من كل شائبة نقد.

كيف نمضي الساعات في تتبع أشلاء ذوات نثرتها سُهْكة من نفس ذميمة. 

كيف أرضانا بأقل القليل وأرهبنا أن نقول هل من مزيد فنقعد ملومين محسورين.

كيف تسمرنا في مجالسنا في كل موقف احتجنا أن نتقدم فيه.. حاصرتنا عيون في رؤوسنا جاحظة محذرّة.

كيف كان عدم الاختيار هو الخيار الأفضل دومًا، نحن لا نعلم من نحن ولا ندري ما نريد. 

كيف نعيش حيواتنا باكملها ولم نعرف أبدًا ما هو الأمان ومتى يكف نهك القلب.

كيف أمضينا عمرنا نلقي باللوم على ذواتنا، ذواتنا فحسب.. أنا المخطئ، أنا المذنب، أنا العاص.

كيف حُرِمنا من معرفة أي إجابة لكل سؤال، وبخاصة هذا السيل من الـ " لماذات".

كيف لا يمكننا أن نتخلص من كل هذا الحِمل.. وكيف أصبحنا هكذا كالحَمَل.

كيف نصرخ " أريد أن أنام يا اليزابيث" 
فيجيب فان جوخ " لن ينتهي البؤس ابدًا يا ثيودور" 






Monday, 10 August 2020

السابعة ‏عشر ‏

يتردد صدى القرارات التي نتخذها في صبانا إلى الأبد. جزء من احترامنا لذواتنا الأولى هو تحمُّل تبعات تلك الحماقات. سيدة جميلة في الثلاثينات، تجلس في محاولة كاملة لاحتواء ذاتها. ليس ذلك الاحتواء الذي يخبرك عن قصور في ثقتها بنفسها ولكنه ذلك النابع من ثقتها بنفسها. الاحتواء الذي تمنع فيه أصغر إيماءة جسد طائشة أن تصرِّح بأي شيء عنها. 
إنها السهل الممتنع، توحي بساطتها أنها كتاب مفتوح بينما يؤكد صمتها أنها بئر محكوم. خفيفة الظل وسريعة القبول. يظن من يجالسها أنه أصبح صديقها، والحق أنها تزن كل حرف في عقلها ولا تنبس به شفتيها. حكيمة ورصينة ولا تتكلم ما لم تدعى لذلك. 
يخبرني ثقب أذنها الزائد أنها كانت مُراهِقة خفيفة، مُحِبّة لتقاليع الشباب، فعندما سألتها عنه أقتضبت بأنها قد فغلتها وهي بالسابعة عشر من عمرها. لم تكُن سعيدة بقرار حَلَق الأذن الزائد فيما يبدو، ولكنها كانت ملتزمة بِه تمامًا؛ ترتدي حلق دبلة على الدوام حتى لا تفقد ذلك الثقب إلى الأبد. 
اتسائل لماذا لا تتخلّى عنه؟! 
لماذا لا تخلعه وتنتهي تلك اللعبة؟! 
هل لنُبقي الذكرى؟! 
هل لتعيش معلقة على أسوار الأبدية؟! 
هل ليذكرها بسوء اختيارها المستمر؟! 
تُخفي عن الجميع أنها تُربّي طفليها بمفردها. نستنتج ذلك بعدما عرفناها لعامين. أتذكر في يوم سألتها أنا وصديقاتي عن قصة ووقوعها في الحب. أخبرتنا قصة مبتورة من كل التفاصيل البارز بها أنها كانت في السابعة عشر. 
لم تكن تعلم وقتها أنه عام الاختيارات غير الموفّقة.
 تحترم ثقب أذنها بالإبقاء عليه وتحترم زيجتها الفاشلة بالسكوت عنها. 



Friday, 26 January 2018

هايزينبرج

أُخبِر تلميذتي الصغيرة ذات البشرة السمراء والعيون الهارِبة أنه " إذا تعلّق الأمر باثنين، يجب أن يوافِق الاثنين"
 تتلوّى أمامي وتُدبدِب " ولكني أُريد أن ألعب معها "
ابتلع ألمي وأُكمِل " ولكنها لا تُريد، لا مُشكِلة في ذلِك، ابحثي عن رفيقة أُخرى"
اتذكرني .. كُنتُ أقِف مثلها منذ سبع سنوات .. أُدبدِبُ في الأرضُ صارِخة .. " ولكنني أُحِبُهُ، لماذا لا يمكِن أن يكون لي "
أشياءٌ كثيرةٌ لا نفهمها .. حتى وإن فسرها لنا الجميع وحاولوا إقناعِنا بِها يظل عقلنا متوقِّفٌ عندها..
لم استسلِم .. عكفتُ للصلاة والصيام والقيام داعية لله أن يملئ حُبي قلبَهُ .. " أليست القلوبُ بيديه يُقلَّبُها كمان يشاء ؟"
لم يستجِب الله لذلِك .. ولهُ الحمدُ والشُكر .. ولكن تركني الله وحدي مع ال " لماذا " ..
لماذا لم يستجِب الله لدُعائي ؟
لماذا جعلني أُحِبُه إذا كان لن يستجِب لدُعائي ؟!
لماذا لم يجعلنا الله مناسبين لبعضنا البعض ؟!
لماذا أدعو الله مرة أُخرى إذا كان كُل ما يكتُبُه لنا خير ؟!
ومنذ حينها اتبعتُ دين عدم التأكُد .. ماذا لو دعوت الله شيئًا آخر ولم يستجِب ؟!
ماذا لو استجب ولم أعد راغِبة في ذلك الأمر بعد ذلِك ؟
ماذا لو أستجب وكنت راغبة في الأمر وكان الأمر كدرًا لحياتي ؟!
في تقديري كُل شيء مُمكِن وجائِز .. كان عليَّ أن أعيش كُل ذلِك الألم حتى أعرِف أنه من النضج أن  أتقبَّل كُل ما يُريدُه الطرف الآخر .. 
هل أتقبَّل حقًا، أم هي مزاعِم النُضج والأنفتاج وتقبَُّل الاختلاف والآخر ؟!
هل لدي حلٌ آخر سوى القبول ؟!
الإرادة لا يُغيرُها شيء .. إرادة الله أو رغبة البشر .. كُل طرف عاجِز أمام رغبة الطرف الآخر ..  نحن عاجزين دومًا أمام أشياءٍ كتِلك.
أُحادِث صديقتي هذا الصباح
تسألني " ماذا لو ملََ زوجي المستقبلي منّي "
أجاوب: إن العلاقات لم توجد لتدوم، يجب علينا تقبُّل هذا
تُجيب: نعم، لن أحزن إذا ملَّ وأراد الرحيل ولن أمنعه، لن تستطيعي إبقاء أحد لا يُريد أن يبقى
أسألها: حقًا ؟!
تُكمِّل: ولن ألومه أو أغضب منه، هذا حق أي إنسان
أسألها: ماذا لو كان لديكم أطفال ؟!
تُجيب: هذا لا يمنع
أُضيف: لذلك أُفضِّل عدم إنجاب الأطفال
تستنكِر: وماذا لو قررنا عدم الإنجاب وعشنا سويًا طول العُمر سُعداء، ألن نندم على عدم الإنجاب ؟!
أصرُخ: يا دين هايزينبرج !!

أعودُ لنفس نقطة طفلتي.. أُدبدِبُ وأصرُخ " أنا لا أُطيق هذه الوِحدة، أنا لا أُريد هذهِ الحياة" .. يُجيب الله " لا مفرُ من إرادتي "